د. حبيب حداد

طرحنا السؤال لا بدافع الحنين، ولا في سياق نظرية مؤامرة، بل كتفكير خارج تابلو “التفوق الأخلاقي” الذي فصّلناه على قياسنا. فالادعاء بأننا “خير أمة” لم يعد يطابق الواقع حين نستهلك، بتقوى ظاهرية، منتجات “الكفار”، ونشتم قيمهم فيما نعيش عليها.

التاريخ لا يُلخّص بشعارات، فيوم انطلق السباق، كان الشرق يبني حضارة، ويؤسس لمفاهيم القانون والعقل، بينما كانت أوروبا تائهة بين ظلمات الإقطاع وسلطة الكنيسة.

لكن شيئاً ما تغيّر. أو دُمّر.

من الخندق الذي حفره النبي في يثرب، تسرّبت نبوءة عن مفاتيح فارس والشام واليمن. كانت رؤية سياسية مغلفة بوعود دينية: “الصبر على الحصار سيُكافأ بالغنائم، وبالسيطرة”. وهكذا بدأت الرحلة الكبرى، انتقال العصبية من الصحراء إلى المدينة، لا بقصد التحضّر، بل بغرض السيطرة.

تعتبر البنية التحتية عند ماركس (Infrastructure)، من حيث كونها تشير إلى، علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، الأساس الاقتصادي للمجتمع.

أما البنية الفوقية (Superstructure فتمثل النظام الثقافي والسياسي والإيديولوجي الذي يُبنى على الأساس الاقتصادي. والعلاقة بين البنيتين في الفكر الماركسي، علاقة جدلية، أي أن كل منهما يؤثر في الآخر في سياق الصراع الاجتماعي والتاريخي. والبنية التحتية تحدد بدرجة كبيرة طبيعة البنية الفوقية، التي تؤثر بدورها على البنية التحتية، فالبنية الفوقية لا تُعد مجرد انعكاس سلبي لسابقتها، بل يمكنها أن تعزز أو تُعيق تطور البنية التحتية.

فيمكن للدين أو القانون مثلا أن يُستخدما لتبرير الاستغلال أو لخلق وعي كاذب معرقل لتطور السيرورة التاريخية.

لم يتحدث ماركس مباشرة عن الغزوات “الهمجية”، لكنه أشار إلى أن القوة المادية (البنية التحتية) هي التي تحدد مصير المجتمعات. ومن هذا المنظور، فإن لم يتمكن الغزاة من تغيير البنية التحتية، فإنهم سوف يُدمَجون في البنية الفوقية للحضارة المغزوة حسب رأيه، فالبرابرة الذين غزوا روما، تبنّوا ديانتها، لغتها وتنظيمها القانوني.

ويعتبر ابن خلدون، أبرز من شرح هذا الموقف في القرن الرابع عشر، عبر نظريته في “العصبية”، فهو يرى أن البدو الأقوياء بغلبة العصبية يغزون المدن المتحضرة، لكنهم سرعان ما يذوبون في حضارتها. فالحضارة تفسد “عصبيتهم”، ويخلفهم بدو جدد، وهكذا تدور الدورة.

فالبداوة حين تنتصر، تفسد. وتفسد ما تلمسه، وما غزوات العرب للفرس والروم، ثم انحلال الدولة الأموية والعباسية، إلا إثباتا لنظريته، حسب رأيه.

أما توينبي في كتابه “دراسة في التاريخ”، فقد توقف طويلاً عند لحظة غزو الشعوب الأقل تطوراً للحضارات الأكثر تمدناً، التي تنهار من الداخل بفعل الترف والانقسام، مما يجعلها عرضة لغزو شعوب “بربرية”، حيث لا يُعاد إنتاج الحضارة حينها، بل يُعاد توزيعها.

ففي البداية، تكون المجموعة الهمجية أقل تطوراً من الناحية الاقتصادية (بدوية، رعوية، زراعية بدائية)، بالمقارنة مع المجموعة المدنية التي تمتلك بنية تحتية أكثر تعقيداً (صناعة، مدن، تقسيم عمل).

ولكن بعد الغزو، يأخذ الغزاة البنية التحتية كما هي، ويعلّقون فوقها بنية فوقية هجينة، لا تنتمي لها، ولا تفهمها، ويستخدمونها لمصلحتهم دون تغيير جوهري. ويُعيدون ترتيب السلطة وعلاقات الإنتاج لصالحهم، ما يؤدي إلى تحولات عميقة لاحقاً. فتوينبي أكّد أن الغزاة كونهم لا يمتلكون رؤية تتجاوز غنيمتهم، فإنهم يُهضمون في حضارة المغزو، ويستشهد توينبي بالمغول الذين غزوا الصين ثم تبنّوا تقاليدها وبيروقراطيتها.

لكن التجربة العربية سارت بعكس ذلك، لم يذب الأعراب في بوتقة المدينة، بل فرضوا، وبالسيف، قيم البداوة على مدينة لم تكن تنتظرهم.

دمشق تحت الأمويين لم تحتوِهم، بل هم الذين طبعوها بطابعهم، تخلّوا عن إرثها الهيليني والروماني، وألبسوها لغة العصبية.

معاوية لم يكن مجرد أمير، بل كان تجسيداً لتحوّل الدولة إلى امتداد للعائلة، لا للمؤسسة.

نتيجة هذا التحوّل لم تكن سياسية فقط، بل حضارية بامتياز، إذ سقطت فكرة “القانون” لتحل محلها “الفتوى”، وسقطت فكرة “الدولة” لتُستبدل بـ”العشيرة”، وانهارت “المعرفة” لحساب “الذاكرة الشفهية”.

وحين ظنّ الناس أن “الفتح” حضارة، كان الواقع يقول إن “البنية المدنية نُسفت”، وأن القادمين الجدد أداروا المدن بثقافة الغزو، لا بعقل المدينة.

لم تكن الشام أو العراق أو مصر بحاجة لمن يُعرّفها بالحضارة، بل كانت تحتاج من يصون تراكمها. لكن القادمين، أفسدوا التوازن، ثم استقروا.

ولكن ثمة سؤال شكّل معضلة!!

لماذا لم يندمج البدو الفاتحون في حضارة البلاد المغزوة، كما اندمج المغول في حضارة الصين، أو كما ذاب القوط في الخضارة الإسبانية؟

لم يكن انتصار البدو العرب في فارس وبلاد الشام مجرد فتح عسكري، بل كان غزواً للبنية الفوقية للحضارات التي كانت أكثر رسوخاً ونضجاً على المستوى المادي والمعرفي.

فالبنية الفوقية التي فرضها العرب – ذات الجذور البدوية الشفاهية والمفتقرة لمؤسسات مدنية أو نظم إنتاجية متقدمة – جاءت محصّنةً بسياج النبوة المقدّسة. لم يكن بالإمكان مساءلتها أو نقدها، لأنها اندمجت بالمقدّس ذاته، وحوّلت الموروث القبلي إلى نصّ مفارق للتاريخ، مكتفٍ بذاته ومعادٍ للسيرورة، فالعرب ببساطة لم يأتوا ليتعلّموا، بل ليعلّموا. هكذا كانت النبوءة المقدسة، وهكذا نُفّذت.

وبدلاً من أن تندمج البنية التحتية المتقدمة للمجتمعات المغزوة (الفارسية والبيزنطية) مع البنية الدينية الجديدة وتتشربها، لإنتاج نموذج حضاري بعينه، تمّ كبح هذه السيرورة التاريخية بفعل سلطة المقدّس، وبقيت أدوات الإنتاج والتفكير والإدارة أسيرة رؤية بدوية ماضوية، تُجرَّم محاولة تجاوزها باعتبارها خروجاً عن “ثوابت الأمة” التي يعتبر الدين في القلب منها.

إن ما حدث ببساطة هو انتصار البداوة على المدنية، ليس بالسيف فقط، بل بالنبوءة.

وفي الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الشرقية ترزح تحت وطأة بنية فوقية بدوية محصّنة بالمقدّس، تُقمع فيها محاولات التجديد أو مساءلة الموروث، كان الغرب يدخل في سلسلة ثورات معرفية متتالية، من النهضة إلى الإصلاح الديني، ثم التنوير، فالثورة الصناعية، وصولاً إلى العقلانية الحديثة والليبرالية والديمقراطية.

لقد استغل الغرب حالة التكلس المعرفي والسياسي في الشرق، ونجح في تحويل التراكم المعرفي إلى مشروع حضاري شامل، يُعيد تشكيل البنى التحتية والفوقية في آنٍ معاً. بينما بقي الشرق أسير سردية ماضوية تُعيد إنتاج نفسها وتحصّنها بالمطلق، وتُقصي كل محاولة لتفكيكها أو نقدها.

وهكذا، ومع مرور الزمن، اتسعت الهوة الحضارية بين الشرق والغرب، ليس فقط على مستوى أدوات الإنتاج والتقنية، بل في الرؤية للعالم، وطبيعة العلاقة بين المقدّس والسياسي، بين الفرد والمؤسسة، بين العقل والنص.

ربما كانت النبوة في عالم البداوة بداية انبعاث، لكنها تحوّلت في البلاد المغزوة إلى عائق أمام التجاوز والتطور، ومع الوقت، تحوّلت “الدولة” إلى غنيمة، وصادرت النخبة القبلية مفاتيح السلطة، وأدارتها كما تُدار القبيلة، لا دولة خارج إرث الفاتحين، لا عقل خارج النص، وحتى حين تطلّب العصر عقلاً نقدياً، اختاروا السيف بدلاً من السؤال.

في الوقت الذي تحولت فيه النبوة في الشرق من قوة تحرر إلى سلطة تُؤبّد، كان الغرب يحرّر نفسه من الأصفاد ذاتها. لم ينتظر الغرب وحياً جديداً، بل شرع، خطوة إثر أخرى، في تحرير العقل من سلطة الغيب، والمجتمع من سطوة الميراث. هناك، لم تُرفع التجربة الأولى إلى مقام المطلق، ولم يُصنّف العقل كعدو للنص، بل صار التاريخ نفسه موضع مساءلة، والنص مجرد مرحلة في مسار.

Share this post

Subscribe to our newsletter

Keep up with the latest blog posts by staying updated. No spamming: we promise.
By clicking Sign Up you’re confirming that you agree with our Terms and Conditions.

Related posts