بشار عباس

فيما يلي ثلاثة أوهام:

1. الديمقراطية نظام مستورد: يقال إنه مستورد من أورباوأنه نشأ للمرة الأولى في اليونان. وهذا غير صحيح فقد خلفت مملكة أور السومرية في الألف الثالث قبل الميلاد نصاً يقول أن الملك غلغامش استدعى مجلس الآباء (أبو) ومجلس العامة لبحث مسألة هامة، وهذا يعني أن المجالس التمثيلية المؤلفة من مجلسين ولدت في بلاد ما بين النهرين قبل ألفي سنة من ديمقراطية أثينا أو روما. وقد مثل دستور قرطاج أول شكل من أشكال التنظيم السياسي المقنن بتونس وقد استشهد به الفيلسوف الإغريقي أرسطووركز على تحليل أهميته في كتابه السياسة، وهو دستور سبق الثورة الفرنسية والماغنا كارتا الإنكليزية والدستور الأمريكي بألفي عام.

2. صندوق الاقتراع هو جوهر الديمقراطية: يقال إن جوهر الديمقراطية هو الالتزام بصندوق الاقتراع. وهذا غير صحيح فجوهر النظام الديمقراطي هو تأسيس دولة للمواطنين لا للرعايا، أي أن المواطنين متساوون ليس فقط أمام صندوق الاقتراع بل في جميع مناحي الحياة: حق التعلم وتوفير فرص عمل متساوية وحق التعبير عن الرأي، والأهم من ذلك لا بد من توفرعدة شروط أساسية، الأول أن لا يكون هنالك أي حاجز وسيط بين المواطن والدولة كحاجز العشيرة والطائفة والدين والإقليم والحزب، أي أن تكون العلاقة بين المواطن والدولة علاقة مباشرة لا يعوقها عائق،والشرط الثانيضمان تساوي المواطنين أمام القانون وعدم التمييز بينهم على أساس الدين والعرق واللون، والشرط الثالث هو ضمان انتقال وتبادل السلطة بشكل سلمي من خلال منع أجهزة الدولة من تقييد حريات معارضيها، كما حدث مع هتلر وموسوليني الذين وصلا إلى السلطة عبر صندوق الانتخاب لمرة واحدة ثم لم يتزحزحا عنها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، والشرط الرابع هو فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها لتتمكن كل منها من ضبط أداء الأخرى، ولكي لا يكون التفويض الانتخابي تفويضاً مطلقاً خارج حدود القانون.ويفترض أن يضم هذا الفصل أيضاً فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية وذلك لمنع الحكومات من استغلال هذه المؤسسات لتثبيت سلطتها، وكذلك لحماية المؤسسات الدينية من استغلال وتلاعب بعض رجال السياسة لخدمة مصالح ضيقة. وهذا لا يعني الإساءة للدين بل الحفاظ على مؤسساته من استغلال المؤسسات السياسية ذات المصالح المتناقضة.

3. لا تصلح الديمقراطية لشعوبنا المتخلفة: وهذا غير صحيح فقد مرت البلدان العربية (مثل سورية ومصر وتونس والعراق ولبنان وغيرها) بتجارب ديمقراطية مثمرة، وكانت هذه الحجج سائدة منذ زمن طويل، وقد وردت كما هي تماماً في كتاب (التاريخ السري للاحتلال الانكليزي لمصر) من تأليف ولفرد بلنت الصادر عام1882، وها هي الحجج نفسها تتكرر اليوم دون تغيير بل ويضاف إليها القول إن التسليم بحرية المواطنين في اختيار نظامهم سيؤدي إلى أذية الناس والبلد. ومن المنطقي أن نقول أن بعض الأزمات التي يمر بها المجتمع تدفع به إلى خيارات خاطئة في صندوق الاقتراع، واشهر الامثلة على ذلك انتخاب هتلر وموسوليني وترامب وبوريس جونسون وكذلك الشعبية التي تتمتع بها لوبين في فرنسا، ولكن الحل لا يكمن في إلغاء صندوق الانتخاب بل تعميق ملامح الديمقراطية. وإذا سمحنا لأنفسنا بالانجرار وراء هذه الحجج، فإلى متى ينبغي الانتظار قبل البدء بممارسة الديمقراطية؟ وهل الحكام المستبدون مصنوعين من نور الملائكة ولا يمكن أن يخطئوا؟ بل هم يخطئون فهم من طينة شعوبهم، ولكن لا توجد آلية قادرة على تصحيح أخطائهم.

ونعرض فيما يلي لأربع حقائق:

1. الديمقراطية ليست نظاماً مثالياً: لا شك أن أي نظام ديمقراطي هو أفضل من النظام الدكتاتوري، فأنغيلا مركل أفضل بمئات المرات من هتلر، وبيدرو سانشيز أفضل من فرانكو، لكن هذا النظام له عيوبه فهو الذي أدى إلى انتخاب ترامب وجونسون بعد صعود النزعة الشعبوية، ولكنه النظام الذي يبقى قادراً على تصحيح نفسه في الانتخابات التالية.

2. لا تحقق الديمقراطية تمثيلاً عادلاً للشعب: المجتمع الذي تسيطر عليه طبقة سائدة تمتلك في يديها جميع وسائل التأثير وخاصةً المال والإعلام، هذا المجتمع لا يستطيع أن يوفر ديمقراطية تمثيلية عادلة مئة بالمئة لمواطنيه، حتى لو منح حق التصويت لجميع البالغين، فالترشيح ثم الفوز بحاجة إلى حملات انتخابية وبالتالي يجب أن يكون الشخص غنياً أو مدعوماً من الأغنياء، وأن يكون له من يسانده في وسائل الإعلام. لقد كانت الديمقراطية منذ تأسيسها الأول في بلاد الرافدين ثم في قرطاجة وأثينا هي الوسيلة الأفضل لتوزيع النفوذ والسلطة بين قوى الطبقة الحاكمة، وتبادل السلطة بشكل سلمي، وعندما تشتعل الأزمات وتفقد الطبقة الحاكمة القدرة على السيطرة على المجتمع فإنها لا تتورع عن اللجوء إلى الحل الأخير: الطغيان والفاشية، وعلى الرغم من كل ذلك تبقى الديمقراطية هي الأداة الأفضل لممارسة العمل السياسي والدعائي للأحزاب التي لم تفز بثقة الأغلبية، فتعاود الكرة، وبذلك يستطيع هذا النظام أن يصحح نفسه.

3. لا توجد صيغة نهائية للنظام الديمقراطي: تطورت النظم الديمقراطية عبر مسيرة طويلة استمرت خمسة آلاف عام، ولا توجد مسطرة واحدة نقيس بها الديمقراطية، ولا بد أن نتذكر أن حق الانتخاب كان محصوراً تاريخياً بالسادة ولم يكن يحق للعبيد الاقتراع، بل وفي بعض الأحيان لم يكن من حق الفقراء الأحرار أن يقترعوا، كما أن التيارات المحافظة كانت ترفض التسليم بحق الانتخاب للنساء، وهي عادة مستمرة من التاريخ القديم حيث كان حق التصويت محجوباً عن الإناث في بلاد الرافدين وكذلك في المجتمع الأثيني، ولم تبدأ المرأة في نيل حق التصويت إلا في نهاية القرن التاسع عشر(جزيرة مان1894 ونيوزيلاندا 1895) وفي بداية القرن العشرين (استراليا 1900 – روسيا 1907 – النروج 1913 – كندا 1917 – بريطانيا وبولندا 1918 – الولايات المتحدة 1920- إسبانيافي عام 1933، وفرنسافي عام 1944، وإيطاليافي عام 1946، واليونانفي عام 1952، وسويسرافي عام 1971) بينما حصلت المرأة العربية على حق التصويت قبل بعض الدول الأوربية ( سورية 1948 – لبنان 1952 – السودان 1954 – مصر 1956 – تونس 1959 – الجزائر 1962 – المغرب 1963 – عمان 1994 – الكويت 2005). وقد مرت البلدان الديمقراطية الأولى بعدة مراحل كان فيها حق التصويت مقتصراً على أصحاب الأملاك والثروات، وهو ما يعني، بشكل شبه دائم، أقلية ذكورية من السكان. وأضافت بعض الدول شروطاً أخرى للناخبين كاتباعهم ديناً معيناً أو أن لا يكون محكوماً بحكم قضائي. كما أنه في النظام الديمقراطي الذي يفترض فصل السلطات عن بعضها بما في ذلك المؤسسات الدينية، يتم تطبيق هذا الفصل بدرجات مختلفة، ففي النظام الإنكليزي ترمز الملكة فيه إلى الكنيسة والدولة في الوقت نفسه ولكنه رمز شكلي، بينما يتشدد الفرنسيون في الفصل بين المؤسسات الدينية والدولة، أما الولايات المتحدة ففصل السلطات التنفيذية عن التشريعية والقضائية هو فصل حاسم فالرئيس والوزراء هم عرضة طوال الوقت لمساءلة السلطتين التشريعية والقضائية، بينما نجد نمطاً آخر تجاه علاقة السلطتين التنفيذية والتشريعية مع المؤسسات الدينية، مختلف كلياً عن فرنسا وأكثر مرونة وتسامحاً.

4. العلاقة بين الديمقراطية والبنية الاقتصادية – الاجتماعية: ولكي تكتمل الصورة فنحن هنا لا ننكر صلة التطور الاقتصادي – الاجتماعي – العلمي بدرجة التطور السياسي الديمقراطي ففي مجتمع تسوده العلاقات العشائرية ونظامه الاقتصادي ريعي – كومبرادوري – زبائني (مثل معظم البلدان العربية) لا يمكن الوصول إلى شكل متقدم من النظام الديمقراطي، فأحد شروط وجود النظام الديمقراطي المتطور هو وجود طبقة متوسطة واسعة، ونهضة علمية اقتصادية تؤسس لاقتصاد إنتاجي. ولكن كي نصل إلى هذه الشروط لا بد من البدء بما هو متاح من الفرص في ظل نظام ديمقراطي ناقص أو حتى في ظل نظام استبدادي. وهذا يتطلب تحالف كتلة واسعة من الفئات والجماعات التي لها مصلحة في تطوير الاقتصاد والمجتمع وهي كتلة كبيرة تضم الأغلبية العظمى من الشعب، ولا تستثني أحداً سوى الفئات الطفيلية – الكومبرادورية. ثم الاعتماد على هذه الكتلة في بناء نظام سياسي اقتصادي إنتاجي تنموي جديد. إن الطبقة المسيطرة في الاقتصاد الطفيلي تقف بقوة ضد التقدم باتجاه ديمقراطية حقيقية، فالديموقراطية ليست من مصلحتها، وعندما يفرض عليها النظام الديمقراطي تعمل على تشويهه وإفراغه من محتواه كما يحدث في لبنان والعراق والكويت والأردن وبلدان أخرى. لذلك نقول: إن من يريد ديمقراطية حقيقية عليه أن يسعى أولاً إلى بناء الشروط اللازمة لها ومن أهمها التحول من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي مما يسهم في خلق طبقة وسطى كبيرة تشكل سياجاً للديمقراطية.

Share this post

Subscribe to our newsletter

Keep up with the latest blog posts by staying updated. No spamming: we promise.
By clicking Sign Up you’re confirming that you agree with our Terms and Conditions.

Related posts