• Home
  • مقالات
  • الوضع العربي الراهن وإمكانات الخروج من النفق المظلم

الوضع العربي الراهن وإمكانات الخروج من النفق المظلم

د.حبيب حداد

(2-2مقال كتب قبل عشر سنوات )

عشر حقائق مستخلصة

هذا هو في راينا جذر الخلل العميق في واقع مجتمعاتنا العربية وهذا ما يرسم ويحدد منطلق ومسار معالجتنا لهذا الواقع المتخلف اذا كنا عازمين فعلا ان ننهض بمسؤولياتنا الوطنية والانسانية – نحن المثقفين العرب بالدرجة الأولى – واذا كنا عازمين حقا على الاضطلاع المنتظر بدورنا المطلوب في انقاذ مجتمعاتنا وتخليصها من المأزق المصيري الذي تتخبط فيه والخروج من هذا النفق المظلم . .خلاصة القول ان قاعدة الانطلاق في بعث واحياء و استعادة الفاعلية للمشروع النهضوي العربي المستهدف والمغيب اليوم ,واعادة زمام المبادرة الى القوى والتيارات العروبية : الوطنية والليبرالية والديمقراطية العلمانية التي تشكل العمود االفقري لاقامة الكتلة التاريخية التي لا بد منها في داخل كل قطر وعلى صعيد الوطن العربي , قاعدة الانطلاق هذه , تتمثل في المباشرة دون ارجاء بتدشين ثورة فكرية ثقافية في مجتمعاتنا باعتبارها المهمة المركزية الراهنة لوقف حالة التداعي والانهيار . ان مجتمعاتنا احوج ما تكون اليوم قبل الغد الى ثورة ثقافية فكرية شاملة تتناول جوانب الثقافة وبرامج التعليم والاعلام ,وتطويرالوعي السياسي , والاصلاح الديني الجذري واعادة قراءة وتقييم واستيعاب تجارب ودروس التاريخ الوطني والعالمي وفق مناهج العلوم الانسانية والاجتماعية المعاصرة . ثورة ثقافية ترمي في غايتها المنشودة بناء مجتمعات متطورة حديثة تحررها من اسر واقع التخلف والتهميش والاستلاب وهيمنة الفكر الغيبي والانقياد للعصبيات والروابط ماقبل الوطنية , وتنقلها الى حياة العصر. واذا كان المجال لا يسمح هنا بالاستطراد في ذكر مراحل او برامج هذه الثورة الثقافية الفكرية المبتغاة في مختلف مجالاتها ونواحيها ,فاننا نرى من المناسب هنا ان نثبت بعض الاستنتاجات والحقائق التي لابد ان نستند اليها فيما اذا كنا قد توصلنا حقا الى تشخيص صحيح لواقعنا المأزوم واسباب اعتلاله البعيدة والقريبة ,الأساسية منها والعرضية :

– اول هذه الحقائق ان نعترف أننا نعيش واقعا متخلفا يشمل كل جوانب حياتنا المادية والروحية . ولا يفيد او يخفف من وطأة معاناتنا او ضعف حالنا, الادعاء بأننا متقدمون روحيا على غيرنا الذي يسبقنا فقط في مضمار حضارته المادية الالحادية , وان ما نحتاج اليه هو التزود والاستعانة بادوات هذه الحضارة التكنولوجية المادية .ان التخلف الفكري السياسي والاجتماعي الذي ركزنا عليه في بداية هذا البحث هو اذن حصيلة التخلف العام في تطور بنيان مجتمعاتنا في كافة المناحي العلمية والإقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية الذي تأخر عن ركب الحداثة العالمية بعدة قرون . ومن اخطر مظاهر هذا التخلف ما نشهده في حياة مجتمعاتنا من سيادة الفكر الغيبي والمنهج البوليسي وذهنية المؤامرة في تفسير الأحداث ,ومن جهة اخرى ما فا جأنا على غير توقع من انبعاث محموم للروابط والعصبيات والهويات القاتلة ما قبل الوطنية التي تعصف الآن اعاصيرها مهددة وحدة شعوبنا ودولنا بأفدح الكوارث والأضرار . من هنا فان المطلوب من كل الطروحات النظرية والإيديولوجية ومن كل المشاريع التحررية النهضوية في هذه الحقبة من حياة بلداننا العربية أن تستهدف اساسا تلبية الاحتياجات المادية والروحية للانسان العربي وأن تهيئه للانتقال الى مستوى العصر .ان كل اعمدة المشروع الحضاري العربي المتوافق عليها من قبل غالبية نخبنا الفكرية والسياسية ,وفي مقدمتها الديمقراطية والتنمية المستقلة والتجدد الحضاري والكيان العربي الواحد , ينبغي لها اذا أن تتمحور حول تحقيق هذه الغاية سواء في نطاق كل قطر او من خلال الكيان العربي الموحد مهما كانت صيغته ومؤسساته . ان المعركة الأم التي تواجه الانسان العربي وتواجه كل شعب عربي ونحن الان في مطالع القرن الواحد والعشرين هي معركة استعادة الذات الواعية الفاعلة وجبهتها الأساس هي الصراع بين قوى التقدم والتنوير والحضارة من جانب وقوى التخلف والارتداد والقدامة من جانب آخر. .

– وثاني هذه الحقائق هي ان الوصول الى اي توحيدي او تكاملي او تجميعي للكيانات العربية القائمة لا يمكن ان يتم الا تجسيدا لارادة شعوبها ..وهذا الأمر يقتضي التركيز على كل من البلدان العربية القائمة بانهاض التيارات الشعبية العريضة المطالبة بالاصلاح والتطورالتدريجي واقامة انظمة حكم رشيدة تلبي رغبات ومطامح شعوبها في التحرر والوحدة ,اي ان قاعدة الانطلاق تتمثل في بناء انظمة ديمقراطية حديثة في كل من هذه الأقطار . في ضوء ذلك فان طرح اية مشروعات من قبل بعض المكونات القومية او الاثنية او الجهوية مثل مشروعات الفيدرالية او اتحاد الأقاليم قبل بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ا الموحدة ,كما يطرح الأن من قبل بعض اطراف المعارضة السورية , هو بلاشك اجهاض للمشروع الوطني الديمقراطي وتعريض مصير ومستقبل الشعب السوري للتشرذم والانتحار الذاتي . من جهة اخرى وحيث ان مقومات الوحدة العربية في هذا الفضاء العربي هي ،من جهة ، مقومات روحية نسجتها روابط الماضي والتاريخ المشترك والثقافة الموحدة ، لكن ومن جهة اخرى فان الأهم من ذلك هي مقومات بناء المستقبل المشترك اي بناء كيان موحد بالاسترشاد بالتجارب القائمة في عصرنا ,وحتى يكون هذا الهدف الكبير جاذبا لكل اقطار الأمة لا بد ان تتوفر القناعة لدى شعوبها بكل مكوناتها القومية والاثنية والدينية والمذهبية وقبل ذلك للانسان العربي نفسه بأنه ذاهب للعيش في مجتمع متحرر اكثر تحضرا , وامنع قوة بامكاناته المادية والروحية , واقدر دورا ومساهمة في الحضارة الانسانية وبالتالي ان تتكون لديه القناعة والثقة بأن الوعي والعمل الجاد لبلوغ هذه الغايات هو ما يعبر خير تعبير عن جوهرومضمون الهوية والرابطة العروبية .

– وثالث هذه الحقائق ان الوضع العربي الراهن في الوقت الذي أضحى يفتقد فيه الحد الأدنى من القدرة المطلوبة لمواجهة التحديات والأخطار الخارجية ,فانه يتسم بحالة العجز والضعف في التعامل المطلوب مع المشاكل التي تعيشها معظم الشعوب العربية والتي تفاقمت منذ خمس سنوات بحيث اصبحت تهدد وجود دولها القائمة . النظام الاقليمي العربي انتهى عمليا في اعقاب اتفاقات كامب ديفيد وحروب الخليج الثلاث وغزو العراق ولا يزال مغيبا حتى الوقت الحاضر .اما عن مستوى العمل العربي المشترك وعن عجز مؤسسة الجامعة العربية عن القيام بالحد الأدنى من مسؤولياتها وواجباتها فهذا الأمر لا يحتاج الى اي شرح اوتوضيح ,سواء بالنسبة لهذا الواقع أم مسبباته . ان الجامعة العربية التي لم تتخلص في السنوات الأخيرة من هيمنة المحاور الاقليمية وخاصة دول البترو دولار هي بامس الحاجة لاصلاح جذري يتناول ميثاقها ومؤسساتها حتى تكون اقرب للتعبير عن مطامح الشعوب العربية من التعبير عن مصالح الانظمة الحاكمة وانقساماتها وصراعاتها المتجددة .

– رابع تلك الحقائق ان القضية الفلسطينية كانت وينبغي ان تظل القضية المركزية للامة جمعاء .من هنا فان البوصلة التي تعين الاتجاه الصحيح للتحول الديمقراطي والتنمية الانسانية في اي قطر عربي ,وكذلك اية خطوات تتحقق على صعيد العمل العربي المشترك, لا بد ان يظل مقياس الحكم عليها هو مدى خدمتها بصورة مباشرة او غير مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية ومساندتها لكفاح الشغب الفلسطيني في انهاء الاحتلال ونيل حقوقه الوطنية المشروعة في تأسيس دولته الوطنية المستقلة . وهذا الأمر تتجلى خصوصيته في هذه المرحلة بالذات حيث تجاوزت العربدة الاسرائيلية والاستهتار بقرارات الشرعية الدولية في ظل حكم اليمين الاسرائيلي كل الحدود في مواصلة تهويد الأرض العربية وفي التنكر لكل الاتفاقات المعقودة مع السلطة الوطنية الفلسطينية . ان انتفاضات وثورات الشعوب العربية التي انطلقت خلال السنوات الماضية من اجل انهاء انظمة الاستبداد والانتقال الى الحياة الديمقراطية السليمة , سيكون خير دليل على تجاوزها لانحرافاتها ومآزقها الراهنة هو عودة الاعتبار من قبلها للقضية الفلسطينية التي ينبغي ان تظل دوما في موقع الموجه والمرشد في مسار انجاز مهمات هذه الانتفاضات المرحلية والمستقبلية.

.- خامس تلك الحقائق ان الحراك الشعبي السلمي العام الذي بدأته الانتفاضات العربية ,قد تعثر واجهض في البلدان التي تعسكرت فيها تلك الانتفاضات وذلك بفعل عوامل داخلية وخارجية اصبحت معروفة للجميع برغم الحملات الاعلامية المغرضة والحاقدة التي ترمي الى تشويه وطمس الحقائق الفاقعة,وهذا ما ادى الى ان تتحول هذه الانتفاضات الى حروب اهلية بطابعها المذهبي والطائفي والجهوي والقبلي وبامتدادها الاقليمي وانعكاساتها الدولية ,تلك الحروب الأهلية التي تعرض اليوم كيانات تلك البلدان كما هي الحال في اليمن والعراق وسورية وليبيا …الى مخاطر التفتيت والتمزق والضياع . والأمر الأدهى ان هذه الحروب الأهلية العبثية المدمرة , قد وضعت الشعوب العربية في تلك الأقطار امام خيارين احلاهما مر: فاما ان تتخلى هذه الشعوب أوتؤجل مطالبها في التحول الديمقراطي وانهاء انظمة الاستبداد التي كانت توفر لها حالة من الأمن والاستقرار النسبي المؤقت , واما ان تندفع بردود ةالفعل لتأييد المجموعات التكفيرية المسلحة التي تعمل لتدمير اوطانها واقامة كيانات وامارات لا علاقة لها بحضارة هذه الشعوب واهدافها ولا بقيم وروح العصر . ان هذا الواقع المأساوي يضع على رأس مهمات النخب الفكرية والسياسية والقوى الوطنية العربية ,في اية خريطة طريق يتم التوافق بشأنهاأ المهمة الانقاذية العاجلة والملحه وهي العمل بكل الوسائل والأساليب الممكنة لايقاف حريق الحروب الاهلية المذهبية الطاحنة, وذلك في اطار استراتيجية متكاملة تشمل استخدام الوسائل والأساليب المباشرة بالمواجهة العسكرية للمجموعات الجهادية الأصولية التكفيرية من جهة , والوسائل والأساليب غير المباشرة عن طريق اصلاح وتطوير مناهج التربية والتعليم والثقافة والاعلام ,ومناهج التربية والارشاد الديني من جهة ثانية . علينا جميعا كمثقفين ونخب فكرية وسياسية فاعلة ان نصوغ البرامج الكفيلة بمخاطبة وتوعية الرأي العام الشعبي في بلداننا كي يواصل حراكه الشعبي السلمي ويواصل طرح مطالبه المشروعة في الحرية والديمقراطية والمساواة ,تلك المطالب التي لا بد من ان تحظى بدعم ومساندة كل قوى الحرية والتقدم في العالم ,والتي لن تقوى الأنظمة الحاكمة على التنكر لها مهما استخدمت من وسائل العنف والقمع الوحشي . لقد اضر انحراف الثورات العربية الى العسكرة ابلغ الضرر بهوية تلك الثورات وصورتها واهدافها امام الرأي العام العالمي وادى بالنتيجة الى ارتهان المصير الوطني نتيجة ذلك لسياسات ومصالح الدول الخارجية .

– سادس تلك الحقائق المستخلصة من تجارب بلداننا الاصلاحية والنهضوية التي تعاقبت منذ بدايات عصر النهضة منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم , ان ماتحتاجه لكي تنهض من كبوتها وعثارها وتستدرك ما فاتها من رقي وتطور هو القيام بعملية اصلاح جذرية او على الأصح بثورة ثقافية شاملة يكون محورها الاصلاح الديني . اذ لا بد من اعادة تقييم التراث والتعامل معه بمنطق العصر ولابد من انجاز اصلاح ديني حقيقي يعيد للاسلام دوره الطبيعي وخصوصيته في تاريخ وحضارة و ثقافة العرب جميعا على اختلاف اديانهم ومذاهبهم ,اصلاح يحرر الأديان من استغلال وهيمنة السلطات الحاكمة والاتجار بها لأغراض ومنافع دنيوية ويفصل السياسة عن الدين والدين عن السياسة , اصلاخ حقيقي يعيد للأديان جوهر رسالتها الحقيقية كعلاقة بين الانسان وربه , ومصدر لقيم الحرية والتضامن والسلام والرحمة والمساواة والعدالة بين بني البشر . وبمعنى أخر ينبغي ان يمهد الاصلاح الديني الى تحرير مجتمعاتنا من قيود الماضي وأغلاله ويفتح عقولنا وبصائرنا على طبيعة وماهية التحديات والاحتياجات التي نعايشها في عالمنا الأرضي ,وأن يمهد من حيث المآل الى سيادة افكار ومناهج وقيم الحداثة في مجتمعاتنا وفي مقدمتها قيم العقلانية والديمقراطية والعلمانية, و الايمان بنسبية الحقيقة في سياق التطور البشري الدائم, ووحدة المصير الانساني .

– سابع تلك الحقائق ان التحول الديمقراطي الحقيقي الذي تاخر كثيرا ,والذي هو الخيار الأوحد والممر اللازم كي تعبر مجتمعاتنا الى حياة العصر, لا يمكن ان ينجز او يستكمل بالقيام باجراءات شكلية أو فوقية او تجميلية لا تتناول تغيير بنية الأنظمة القائمة التي ظلت في معظمها اقرب الى طبيعة انظمة القرون الوسطى السلطانية كما اسلفنا والتي تهدد بنيتها العميقة في كل وقت عملية التحول الديمقراطي بالفشل والارتداد . فعملية التحول الديمقراطي لا تقتصر على تغييرطبيعة الانظمة ,بل انها بالنسبة لأوضاعناعملية تحول مجتمعي شامل ,لا تتوقف على استبدال سلطة بسلطة أو تغيير نظام حكم بنظام أخر او الاكتفاء ببعض الاليات الاجرائية التنفيذية مثل أليات الاقتراع أو الاستفتاء او سبر اتجاهات الرأي العام, . ان التحول والتغيير الديمقراطي الذي تحتاجه مجتمعاتنا هوعملية او صيرورة تهدف الى خلق مجتمع جديد من خلال بناء دولة الحق والقانون والمؤسسات الشرعية الممثلة فعلا للإرادة الشعبية. هذا المجتمع المدني الجديد الذي يكون حجر الأساس فيه مبدأ المواطنة الحرة المتساوية دون اي تمييز هو المجتمع الذي يوفر البيئة الملائمة لسيادة منظومة القيم الديمقراطية والعلمانية وكل ما يعزز ويعلي كرامة الانسان .

– ثامن تلك الحقائق اذن ان عملية التحول الديمقراطي التي لا يجوز ارجاء اي من مراحلها تحت اية ذريعة او حجة , انما تمر في طريق تطور طبيعي طويل الأمد الى حد ما , ولا يمكن ان تستكمل وتصل الى غاياتها برغبات فوقية او بانتهاج ماكنا نطلق عليه اسلوب حرق المراحل , لكنها تحتاج الى مستلزمات ضرورية في المقدمة منها ان تتم في اطار ثورة ثقافية شاملة تستمد مرجعيتها من تشخيص سليم لمعطيات الواقع القائم واستيعاب عصري لايجابيات التراث وانفتاح تام على مختلف التجارب العالمية في عصرنا .ومن تلك المستلزمات الضرورية لانجاح عملية التحول الديمقراطي ان تقوم الطبقة الوسطى من حيث حجمها وفاعلية مختلف فئاتها بالدور المطلوب منها , وكذلك وجود المجتمع المدني بكل هيئاته ومنظماته كمراقب وفاعل نشيط يسدد خطوات السلطة ويكمل وظائفها . وخلاصة ما نود التأكيد عليه هنا ان عملية التحول الديمقراطي في كل من بلداننا , التي شهدت ماسمي بانتفاضات الربيع العربي ,تحتاج الى انهاض أوسع كتلة تاريخية تضم اغلب فئات الشعب الطامحة الى تغيير الواقع المعاش وبناء المستقبل المنشود .

– تاسع تلك الحقائق هي المتعلقة بنظرتنا الى الآخر العالمي او الانساني سواء كحضارة ,او كسياسات ,او مصالح دولية , والتي قد تكون متوافقة اومتنافسة او متعارضة او متصادمة فيمابينها او مع مصالحنا نحن بالذات. لقد ظل الطابع العام لهذه النظرة عند معظم الحركات السياسية والنخب الفكرية عندنا هو اعتماد ذهنية المؤامرة واستخدام النهج البوليسي في تفسير الوقائع والأحداث . بدل انتهاج الأسلوب المنطقي العقلاني في تقييم الأمور . نظرنا بدافع من قصور وعينا السياسي الى كل ما يجري على صعيد اقليمنا وعلى الصعيد الدولي على انه سلسلة من المؤامرات المتصلة التي تحيكها تلك الدول الطامعة في ثرواتنا والمعادية لكل حقوقنا وتطلعاتنا المشروعة .وقد كان نتاج هذه النظرة الخاطئة عدة امور واوضاع سلبية ساهمت جميعها في عزلتنا وانكفائنا واعاقة تطورنا .من هذه الأمور ان تفسير كل مواقف الدول من قضايانا بمرجعية التآمر والاستهداف المسبق والمتعمد قد افقدنا القدرة على التعامل السليم مع هذه الدول بالأسلوب الناجع الذي يسمح لنا تبيان الحدود التي تتقاطع فيها مصالح تلك الدول او تتناقض مع مصالحنا الوطنية , كما ان اعتماد مثل هذا النهج الخاطئ قد يكون تبريرا للتغطية على اسباب تواكلنا وعجزنا عن تنمية وتطوير قدرات مجتمعاتنا وصيانة قرارنا الوطني . عندما نلقي بمسؤولية تأخرنا وركود مجتمعاتناعلى عاتق الآخرين ,وخاصة في عصر العولمة هذا الذي لم يعد فيه لاستقلال واكتفاء ذاتي كامل حتى في العلاقات البينية للدول الكبرى التي استعاضت عن ذلك بتبني مبدأ التعاون المتبادل .ان الدول في عصرنا ليست منظمات خيرية وان سياساتها الخارجية في كل الدول الديمقراطية هي سياسات واقعية برغماتية تنبع قبل اي شيئ آخر من مصالحها الحيوية . من جانب آخر فان انطلاقنا المسبق من نظرة التشكيك والإتهام المستحكم للآخر ,في الوقت الذي نطالب فيه المجتمع الدولي بوقف حروبنا الأهلية ومساعدتنا في نصرة قضايانا وحقوقنا العادلة والمشروعة , وان لم يفعل ما نريده نحكم عليه بالتخاذل والتواطؤ والعداء والتآمر علينا , فان تلك النظرة تسيئ كما نعتقد الى هويتنا الوطنية العروبية وتضعها في نطاق عصبوي ضيق وفي تناقض مع جوهرها باعتبارها في الآن نفسه جزءا من الكفاح الانساني المشترك من اجل انتصار قضايا الحرية والعدل والسلام وبالتالي جزءا من من الهم والمستقبل الانساني الواحد .

– اما عاشر وآخر تلك الحقائق المستخلصة من تجارب بلداننا العربية منذ ان احرزت استقلالها الوطني من السيطرة الاستعمارية المباشرة وحتى اليوم ,فهي تلك التي تتناول احدى اخطر الظواهر السلبية في الوعي السياسي العربي العام وعلى الأخص وعي السلطات الحاكمة من جهة ووعي النخب والقوى الوطنية والأحزاب والحركات السياسية المعارضة من جهة ثانية ,ونعني بذلك غياب عملية التراكم والاستمرارية والتطور سواء على صعيد الوعي ام على صعيد الانجاز والبناء . فكل نظام حكم جديد وكل سلطة انقلابية جاءت في مرحلة معينة في اي من بلداننا العربية تجهد منذ اليوم الأول لقيامها على تبرير مشروعيتها بادانة العهود التي سبقتها وضرورة تصفية كل ما قامت به من سياسات وكل ما أنجزته من مكتسبات باعتبارها كانت في غير صالح الشعب الذي جاءت هذه السلطة الجديدة لانقاذه من واقع الاستغلال والتخلف والفساد والحرمان ,وكي تعود للمواطن حريته وكرامته المفقودة . كما تعلن هذه السلطة الجديدة في الوقت نفسه انها جاءت لاستكمال مهمة الاستعداد الجاد لتحرير فلسطين و بقية الأرض العربية المحتلة والسير قدما على طريق تحقيق الوحدة العربية الشاملة …

.أما الوعي السياسي العربي بصورة عامة فانه ينحو نفس المنحى اذ لايقتصر الأمر على مثقفي السلطة فحسب ولا على وعاظ السلاطين من رجال الدين بل يشمل معظم نخبنا الفكرية والسياسية والثقافية . هذه الظاهره التي شكلت اخطر العوامل في اجهاض عمران وتقدم مجتمعاتنا العربية على امتداد نصف القرن الماضي وعودة العديد منها كما حصل بعد انتفاضات ما سمي بالربيع العربي الى نقطة البداية كأنما تؤكد من جديد مصداقية نظرية ابن خلدون عن التطور الدائري المغلق في تطور مجتمعاتنا كما كانت عليه الحال في العصور الوسطى عند ممالك وولايات الدولة العربية الاسلامية . أفليس من المخجل والمحبط ما نشهده خلال السنوات الماضية في سياق انتفاضات الشعوب العربية من اجل الحرية والديمقراطية والعيش الكريم ,وبعد ان حرفت تلك الانتفاضات عن مسارها الطبيعي واغتيلت اهدافها وتحولت الى حروب اهلية مدمرة , أن ترتفع تلك الأصوات والدعوات المسمومة المنادية بتكفير مجتمعاتنا واعلان الحرب الشاملة على دول العالم كله ,هذا في الوقت الذي اصبحت فيه تلك المجموعات الغريبة عن تاريخنا والمعادية لقيم وتطلعات شعوبنا تمارس صباح مساء حقدها الشرس واستهدافها التيارات السياسية الوطنية : التقدمية والناصرية والبعثية واليسارية والليبرالية والدينية وخاصة منها الاسلامية المتنورة , وكذلك عداءها لكل انظمة الحكم التي تعاقبت على بلداننا وكل انجازاتها التي تحققت طوال نصف القرن الماضي عوض البناء عل كل ماتحقق وانجز واصلاح كل ما يتوجب اصلاحه من اجل بناء دولة المواطنة واقامة نظام الحكم الرشيد الذي يجسد ارادة شعوبنا . ان هذا الواقع الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية بعد التجارب التي مرت بها , وبعيدا عن اغفال دور العوامل الخارجية وخاصة المشروع الصهيوني ودوره في استنزاف طاقات الأمة واعاقة تقدمها وتوحدها , لا بد انه يدعونا لوضع يدنا على خلل اساسي في بنية العقل العربي عموما والوعي السياسي العربي تحديدا . لقد ظل الوعي السياسي العربي في اتجاهه العام الى جانب هيمنة واضحة للفكر الغيبي وذهنية المؤامرة والمواقف الانتقائية والازدواجية في تقييم الوقائع والحكم عليها ,فكرا غير نقدي لايراكم معارفه ولا يجدد مناهجه ولا يمتلك قدرة النقد الذاتي والتطور الدائم والتجدد المستمر في مواجهة تحديات ومهمات المستقبل , ظل الوعي السياسي العربي في طابعه العام وعيا قاصرا يتعامل مع التطورات والمستجدات بردود الفعل والتكتيك الآني في غياب الأفق الاستراتيجي المستشرف الذي يعالج جذور تلك المشكلات ويحول دون تكرارها . هكذا استمر حال الوعي السياسي العربي يفتقد الذاكرة التاريخية ,و لا يراكم المعرفة ولا يجددها اشبه ما يكون بالوعاء المثقوب الذي يتطلب تزويده دوما بالماء ليحافظ على بعض مما يحويه . هذا الواقع الذي يجسد من وجهة نظرنا وبصورة موضوعية محنة العقلانية في الفكر السياسي العربي في وضعنا الراهن .

Share this post

Subscribe to our newsletter

Keep up with the latest blog posts by staying updated. No spamming: we promise.
By clicking Sign Up you’re confirming that you agree with our Terms and Conditions.

Related posts